محمد السيد عبد الرازق
كثيرة أعدادها تلك الأقدام التي مرت في هذه الحياة ثم ارتحلت وانتقلت في الغابرين، فكان من بينها أقدام تلاشت معالم سيرها فإذا تتبعتها لم تصل لشيء لأنها سارت على غير طريق لما فقدت غايتها والهدف، وهناك أخرى ما زالت بصماتها بارزة ومعالمها براقة واضحة تعجب الناظرين، قد ارتحلت نعم لكن بقي ذكرها الحسن ... لما أبت السير إلا بترك الأثر.
"لكل إنسان وجود وأثر ... ووجوده لا يغني عن أثره ... ولكن أثره يدل على قيمة وجوده" د.على الحمادي
لما كان الله سبحانه قد خلق الناس لعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وسخر لعباده مع هذه الغاية ما في الكون: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، كانت مهمة الإنسان كخليفة في الأرض تتمثل في إقامة العبودية لله تعالى، وبالتالي الاستفادة من هذه القوى المسخرة في تحقيق تلك العبودية، وهو ما يقتضي القول بأن صناعة الحياة وإعمار الأرض هي من صميم مهام الإنسان في الحياة الدنيا.
والإسلام باعتباره خاتم الرسالات، وخلاصة التعاليم الإلهية، والمنهج الذي أراده الله للبشرية على امتداد الأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يتضمن في مبادئه وقوانيه وشرائعه ما يكفل للبشرية سعادة الدارين، مراعيًا جميع مجالات الحياة وجوانب التكوين البشري واحتياجات العباد في منظومة متكاملة تجمع بين البناء الروحي، والجانب الأخلاقي، وإعمار الحياة، لذا فالمسلم يدرك حقيقة وجوده ومهمته على الأرض، والتي منها ترك أثره وبصمته في سجل البنائين.
أفي الأحياء أنت:
ما أيسر انطلاق الألسنة بالأجابة على مثل هذا السؤال، ولكن إن كان الإنسان حيًا فما علامة وجوده في صفوف الأحياء؟ إن الأكل والشرب والنوم وغيرها من صفات الأحياء ليست برهانًا على الحياة، فالحي لابد له من أثر.
ليس للحياة معنى أو قيمة إذا ما كان الإنسان قابعًا في غيابت السكون، وها هو الرافعي الأديب يترجم ذلك المعنى بقوله: (إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنت زائدًا عليها) [وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي، (2/86)]، ومن لم يجعل لنفسه أثرًا قبل مماته.
كان كما قال الحكيم: (الناس يولدون فيعيشون ثم يموتون)، فكان ممن ولد فعاش ثم مات، هكذا دون أن يسجل عنه التاريخ غير تلك الكلمات.
أما المؤمن الفعال الذي يدرك قيمة صناعة الحياة، فإنه يسعى لأن يترك بصمته فيها: (الفعالية هي أن نستفيد مما يقع تحت أيدينا، وقد سخر الله لنا البر والبحر والحيوان والنبات وأعطانا الزمان، فالإنسان الفعال هو الذي يجعل من الزمن لحظات حية مفيدة، ولذلك يُسأل الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه) [الفاعلية، د.محمد العبدة، ص(].
الهدد المعلم:
هل أتاك نبأ الهدهد السليماني؟ في يوم جمع سليمان عليه السلام جنده من الإنس والجن والطير والوحش، فافتقد الهدهد: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، فتوعده: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21].
فمكث الهدهد غير بعيد ثم أتى سليمان في ذات المؤتمر، وابتدره ببيان عذره: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، فأثار لديه حب المعرفة، وأخبره بمدى يقين الخبر، وهذا من لباقة الهدهد، وإتقانه لفنون الكلام.
ثم شرع في تفصيل الموقف بعد الإجمال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، فبدأ بمقدمة تحفز السامع حقًا، فيخبره بالأمر العظيم الذي شغله عن حضور الاجتماع، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
هي قضية الشرك إذًا، تلك الجريمة البشعة التي هي أعظم ما يرتكب على وجه البسيطة من معاص، فياله من هدهد يشغله هم الإصلاح، لم يركن لكونه مخلوقًا غير مكلف، ولم يركن لضعف إمكانياته في تغيير الباطل، فوجد لنفسه دورًا، كان الإبلاغ عن حادثة الشرك البشعة.
ولكن لما كان هذا الهدهد إيجابيًّا فعالًا يحب أن يكون له أثر، لم يكتف بالإبلاغ، وإنما قام بالتأكيد على السبيل السوي، وهو سبيل توحيد الله عز وجل ونبذ الشرك: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25-26].
نملة أحيت أمة:
وتلك نملة خلد ذكرها أيضًا بالعمل والإيجابية، وكانت قصتها هي الأخرى مع سليمان عليه السلام الذي علم منطق الطير، فيمر سليمان بجنوده: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
حق لك أن تعجب من تلك النملة التي تحسن الظن بقولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، ثم تعجب من حرصها على فعل شيء إيجابي، وعدم الركون للدعة والسلبية، فها هي تحذر قومها غير ناظرة لحجمها، وغير مستسلمة لهاجس الفشل في تبليغ أمتها وتحذيرهم، وغير متخذة: "أنا ومن بعدي الطوفان" شعارًا.
وشبيهتها النحل التي يضرب بها المثل في العمل والبذل وترك الراحة، ويكفيها فخرًا أن نتاج جهدها عسل شهي:
قوموا انظروا لنملة تدفع دومًا ثقــلا
ثم انظروا لنحلـة كيف سقتنا عـسلا
فنملة ونحلـــة أقسمتا أن تعمــلا
ألم يحن لنا بــأن نكسب منها الحيـلا
هيا إذن فمنهـما تعلموا تكامـــلا
ومنهما تعـودوا تعاونًا يا نُبـــلا
بآثارهم اقتدي:
إنهم رجال آثروا ترك بصماتهم في الحياة، فخلد التاريخ ذكرهم، صنعوا حضارة أمتهم، فكانت نهضتهم خيرًا ونورًا على العالمين، وكانوا المصابيح التي استضاء بها الغرب في ظلمته الظلماء، فإليك طرفًا من أخبارهم:
كرر عليَّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي
الحسن وعلمه الحسن:
إنهم الحسن بن الهيثم، ولد في مدينة البصرة بالعراق، درس الطب والفلك، والهندسة والرياضة، والطبيعة.
أهم مؤلفاته في البصريات كتاب "المناظر"، درس فيه نظرية انكسار الضوء وانعكاسه في البيئات الشفافة كالماء والهواء الذي بقي مرجعًا لهذا العلم في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر، والذي كاد فيه أن يتوصل إلى المبدأ الطبيعي الذي يقوم عليه المجهر والمرصد "المنظار المكبر والمنظار المقرب".
له مؤلفات في المكتبة الأهلية في باريس ومخطوطات يعالج فيها فروعًا للهندسة، وله مخطوطات في مكتبتي ليدن وبودلي في أكسفورد، وله 43 كتابًا في الفلسفة والطبيعة، و25 كتابًا في العلوم الرياضية و21 كتابًا في الهندسة، و20 كتابًا في الفلك والحساب.
وقد ذكر أن مجموع ما وصل إلينا من كتبه قد بلغ مائتي كتاب، وكان في كل كتبه رحمه الله يفتتحها بهذه الجملة الرائعة: "أنا ما دامت لي الحياة فإني باذل جهدي وعقلي مستفرغ طاقتي في العلم لثلاثة أمور:
1. إفادة من يطلب العلم في حياتي وبعد مماتي.
2. ذخيرة لي في قبري ويوم حسابي.
3. رفعة لسلطان المسلمين".
همة البخاري:
يقول رحمه الله: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا: (لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (12/401)]، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع ذلك الكتاب.
"خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم" رسالة نذر البخاري نفسه لها منذ العاشرة من عمره، ومن ثم فقد رزقه الله تعالى برؤيته في هذا المجلس المبارك رؤية انطلق يحققها على بساط الحياة يجوب الأرض منطلقًا من مسقط رأسه بخارى، يجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رحل إلى بلخ ثم مرو ثم نيسابور ثم قدم العراق وتنقل بين مدنها، ثم انطلق إلى مكة فالمدينة ثم أكمل رحلته فعرج على مصر ثم الشام.
يقول رحمه الله: (صنفت الصحيح في ست عشرة سنة) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (12/405)]، ويقول: (أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/450)].
وكان رحمه الله آية في قوة الحفظ والذكاء يقول عن نفسه: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح) [فتح الباري، ابن حجر، (1/487)].
متى تترك أثرك:
يا من أنعم الله عليك بالإسلام وكفى بها نعمة، يا من أضاء أجدادك للعالم ظلمته، وصنعوا حضارة يدهش لها التاريخ، أو ما راعك حال أمتك الراهنة، أو ما أفزعك أن كانت الدنيا لغيرك يعبث بها ويجعلها سلاحًا يصوبه نحن صدور أمتك، ألست الأحق بالسبق في حرفة البناء؟
انهض ودع عنك أغلال الخمول، وتعرف على هويتك، وانظر إلى ماضي أمتك تستلهم منه جذوة تضئ لك الطريق، فحي على العمل، وضع بصمتك في الحياة، فما هي إلا أنفاس تعد وتحصى، لا تدري متى يتوقف لها العد والإحصاء، حينئذ لن يبقى لك في الدنيا إلا أثرك، فإن لم يكن طوى التاريخ صفحتك بغير رجعة، وإن كان لك أثر وقفوا على أثرك وقالوا: مر ... وهذا الأثر.
المصادر:
· صفة الصفوة ابن الجوزي.
· سير أعلام النبلاء الذهبي.
· الفاعلية د.محمد العبدة.
· وحي القلم مصطفى صادق الرافعي.
مقال / محمد السيد عبد الرازق
كثيرة أعدادها تلك الأقدام التي مرت في هذه الحياة ثم ارتحلت وانتقلت في الغابرين، فكان من بينها أقدام تلاشت معالم سيرها فإذا تتبعتها لم تصل لشيء لأنها سارت على غير طريق لما فقدت غايتها والهدف، وهناك أخرى ما زالت بصماتها بارزة ومعالمها براقة واضحة تعجب الناظرين، قد ارتحلت نعم لكن بقي ذكرها الحسن ... لما أبت السير إلا بترك الأثر.
"لكل إنسان وجود وأثر ... ووجوده لا يغني عن أثره ... ولكن أثره يدل على قيمة وجوده" د.على الحمادي
لما كان الله سبحانه قد خلق الناس لعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وسخر لعباده مع هذه الغاية ما في الكون: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، كانت مهمة الإنسان كخليفة في الأرض تتمثل في إقامة العبودية لله تعالى، وبالتالي الاستفادة من هذه القوى المسخرة في تحقيق تلك العبودية، وهو ما يقتضي القول بأن صناعة الحياة وإعمار الأرض هي من صميم مهام الإنسان في الحياة الدنيا.
والإسلام باعتباره خاتم الرسالات، وخلاصة التعاليم الإلهية، والمنهج الذي أراده الله للبشرية على امتداد الأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يتضمن في مبادئه وقوانيه وشرائعه ما يكفل للبشرية سعادة الدارين، مراعيًا جميع مجالات الحياة وجوانب التكوين البشري واحتياجات العباد في منظومة متكاملة تجمع بين البناء الروحي، والجانب الأخلاقي، وإعمار الحياة، لذا فالمسلم يدرك حقيقة وجوده ومهمته على الأرض، والتي منها ترك أثره وبصمته في سجل البنائين.
أفي الأحياء أنت:
ما أيسر انطلاق الألسنة بالأجابة على مثل هذا السؤال، ولكن إن كان الإنسان حيًا فما علامة وجوده في صفوف الأحياء؟ إن الأكل والشرب والنوم وغيرها من صفات الأحياء ليست برهانًا على الحياة، فالحي لابد له من أثر.
ليس للحياة معنى أو قيمة إذا ما كان الإنسان قابعًا في غيابت السكون، وها هو الرافعي الأديب يترجم ذلك المعنى بقوله: (إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنت زائدًا عليها) [وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي، (2/86)]، ومن لم يجعل لنفسه أثرًا قبل مماته.
كان كما قال الحكيم: (الناس يولدون فيعيشون ثم يموتون)، فكان ممن ولد فعاش ثم مات، هكذا دون أن يسجل عنه التاريخ غير تلك الكلمات.
أما المؤمن الفعال الذي يدرك قيمة صناعة الحياة، فإنه يسعى لأن يترك بصمته فيها: (الفعالية هي أن نستفيد مما يقع تحت أيدينا، وقد سخر الله لنا البر والبحر والحيوان والنبات وأعطانا الزمان، فالإنسان الفعال هو الذي يجعل من الزمن لحظات حية مفيدة، ولذلك يُسأل الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه) [الفاعلية، د.محمد العبدة، ص(].
الهدد المعلم:
هل أتاك نبأ الهدهد السليماني؟ في يوم جمع سليمان عليه السلام جنده من الإنس والجن والطير والوحش، فافتقد الهدهد: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، فتوعده: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21].
فمكث الهدهد غير بعيد ثم أتى سليمان في ذات المؤتمر، وابتدره ببيان عذره: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، فأثار لديه حب المعرفة، وأخبره بمدى يقين الخبر، وهذا من لباقة الهدهد، وإتقانه لفنون الكلام.
ثم شرع في تفصيل الموقف بعد الإجمال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، فبدأ بمقدمة تحفز السامع حقًا، فيخبره بالأمر العظيم الذي شغله عن حضور الاجتماع، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
هي قضية الشرك إذًا، تلك الجريمة البشعة التي هي أعظم ما يرتكب على وجه البسيطة من معاص، فياله من هدهد يشغله هم الإصلاح، لم يركن لكونه مخلوقًا غير مكلف، ولم يركن لضعف إمكانياته في تغيير الباطل، فوجد لنفسه دورًا، كان الإبلاغ عن حادثة الشرك البشعة.
ولكن لما كان هذا الهدهد إيجابيًّا فعالًا يحب أن يكون له أثر، لم يكتف بالإبلاغ، وإنما قام بالتأكيد على السبيل السوي، وهو سبيل توحيد الله عز وجل ونبذ الشرك: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25-26].
نملة أحيت أمة:
وتلك نملة خلد ذكرها أيضًا بالعمل والإيجابية، وكانت قصتها هي الأخرى مع سليمان عليه السلام الذي علم منطق الطير، فيمر سليمان بجنوده: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
حق لك أن تعجب من تلك النملة التي تحسن الظن بقولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، ثم تعجب من حرصها على فعل شيء إيجابي، وعدم الركون للدعة والسلبية، فها هي تحذر قومها غير ناظرة لحجمها، وغير مستسلمة لهاجس الفشل في تبليغ أمتها وتحذيرهم، وغير متخذة: "أنا ومن بعدي الطوفان" شعارًا.
وشبيهتها النحل التي يضرب بها المثل في العمل والبذل وترك الراحة، ويكفيها فخرًا أن نتاج جهدها عسل شهي:
قوموا انظروا لنملة تدفع دومًا ثقــلا
ثم انظروا لنحلـة كيف سقتنا عـسلا
فنملة ونحلـــة أقسمتا أن تعمــلا
ألم يحن لنا بــأن نكسب منها الحيـلا
هيا إذن فمنهـما تعلموا تكامـــلا
ومنهما تعـودوا تعاونًا يا نُبـــلا
بآثارهم اقتدي:
إنهم رجال آثروا ترك بصماتهم في الحياة، فخلد التاريخ ذكرهم، صنعوا حضارة أمتهم، فكانت نهضتهم خيرًا ونورًا على العالمين، وكانوا المصابيح التي استضاء بها الغرب في ظلمته الظلماء، فإليك طرفًا من أخبارهم:
كرر عليَّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي
الحسن وعلمه الحسن:
إنهم الحسن بن الهيثم، ولد في مدينة البصرة بالعراق، درس الطب والفلك، والهندسة والرياضة، والطبيعة.
أهم مؤلفاته في البصريات كتاب "المناظر"، درس فيه نظرية انكسار الضوء وانعكاسه في البيئات الشفافة كالماء والهواء الذي بقي مرجعًا لهذا العلم في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر، والذي كاد فيه أن يتوصل إلى المبدأ الطبيعي الذي يقوم عليه المجهر والمرصد "المنظار المكبر والمنظار المقرب".
له مؤلفات في المكتبة الأهلية في باريس ومخطوطات يعالج فيها فروعًا للهندسة، وله مخطوطات في مكتبتي ليدن وبودلي في أكسفورد، وله 43 كتابًا في الفلسفة والطبيعة، و25 كتابًا في العلوم الرياضية و21 كتابًا في الهندسة، و20 كتابًا في الفلك والحساب.
وقد ذكر أن مجموع ما وصل إلينا من كتبه قد بلغ مائتي كتاب، وكان في كل كتبه رحمه الله يفتتحها بهذه الجملة الرائعة: "أنا ما دامت لي الحياة فإني باذل جهدي وعقلي مستفرغ طاقتي في العلم لثلاثة أمور:
1. إفادة من يطلب العلم في حياتي وبعد مماتي.
2. ذخيرة لي في قبري ويوم حسابي.
3. رفعة لسلطان المسلمين".
همة البخاري:
يقول رحمه الله: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا: (لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (12/401)]، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع ذلك الكتاب.
"خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم" رسالة نذر البخاري نفسه لها منذ العاشرة من عمره، ومن ثم فقد رزقه الله تعالى برؤيته في هذا المجلس المبارك رؤية انطلق يحققها على بساط الحياة يجوب الأرض منطلقًا من مسقط رأسه بخارى، يجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رحل إلى بلخ ثم مرو ثم نيسابور ثم قدم العراق وتنقل بين مدنها، ثم انطلق إلى مكة فالمدينة ثم أكمل رحلته فعرج على مصر ثم الشام.
يقول رحمه الله: (صنفت الصحيح في ست عشرة سنة) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (12/405)]، ويقول: (أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/450)].
وكان رحمه الله آية في قوة الحفظ والذكاء يقول عن نفسه: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح) [فتح الباري، ابن حجر، (1/487)].
متى تترك أثرك:
يا من أنعم الله عليك بالإسلام وكفى بها نعمة، يا من أضاء أجدادك للعالم ظلمته، وصنعوا حضارة يدهش لها التاريخ، أو ما راعك حال أمتك الراهنة، أو ما أفزعك أن كانت الدنيا لغيرك يعبث بها ويجعلها سلاحًا يصوبه نحن صدور أمتك، ألست الأحق بالسبق في حرفة البناء؟
انهض ودع عنك أغلال الخمول، وتعرف على هويتك، وانظر إلى ماضي أمتك تستلهم منه جذوة تضئ لك الطريق، فحي على العمل، وضع بصمتك في الحياة، فما هي إلا أنفاس تعد وتحصى، لا تدري متى يتوقف لها العد والإحصاء، حينئذ لن يبقى لك في الدنيا إلا أثرك، فإن لم يكن طوى التاريخ صفحتك بغير رجعة، وإن كان لك أثر وقفوا على أثرك وقالوا: مر ... وهذا الأثر.
المصادر:
· صفة الصفوة ابن الجوزي.
· سير أعلام النبلاء الذهبي.
· الفاعلية د.محمد العبدة.
· وحي القلم مصطفى صادق الرافعي.
مقال / محمد السيد عبد الرازق